الرسائل البغدادية إلى دعاة الأمة المحمدية
الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على المبعوث رحمة للعالمين خاتم الأنبياء و لمرسلين محمد بن عبد الله، و بعد
فهذه رسالة نفيسة ذكية إلى دعاة الأمة المحمدية، من الإمام الحافظ أحمد بن علي بن ثابت، يكنى أبا بكر، اشتهر بالخطيب البغدادي(ت463 هـ) رحمه الله
من كتابه الممتع المؤدب للشيخ و الطالب سماه "الجامع الاخلاق الروي و آداب السامع " وهو من جملة ما تمت قراءته مع بعض إخواني من طلبة العلم، أسال الله عز و جل أن ينفعنا به قولا و عملا:
قال رحمه الله في مطلعه بعد الحمد لله، و الثناء علي رسول -صلى الله عليه وسلم-، أما بعد :
أَمَّا بَعْدُ: فَقَدْ ذَكَرْتُ فِي كِتَابِ «شَرَفُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ»(1) مَا يَحْدُو ذَا الْهِمَّةِ عَلَى تَتَبُّعِ آثَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمِ، وَالِاجْتِهَادِ فِي طَلَبِهَا، وَالْحِرْصِ عَلَى سَمَاعِهَا، وَالِاهْتِمَامِ بِجَمْعِهَا وَالِانْتِسَابِ إِلَيْهَا. وَلِكُلِّ عِلْمٍ طَرِيقَةٌ يَنْبَغِي لِأَهْلِهِ أَنْ يَسْلُكُوهَا، وَآلَاتٌ يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَأْخُذُوا بِهَا وَيَسْتَعْمِلُوهَا(2). وَقَدْ رَأَيْتُ خَلْقًا مِنْ أَهْلِ هَذَا الزَّمَانِ(3) يَنْتَسِبُونَ إِلَى الْحَدِيثِ، وَيَعُدُّونَ أَنْفُسَهُمْ مِنْ أَهْلِهِ الْمُتَخَصِّصِينَ بِسَمَاعِهِ وَنَقْلِهِ، وَهُمْ أَبْعَدُ النَّاسِ مِمَّا يَدَّعُونَ، وَأَقَلُّهُمْ مَعْرِفَةً بِمَا إِلَيْهِ يَنْتَسِبُونَ، يَرَى الْوَاحِدُ مِنْهُمْ إِذَا كَتَبَ عَدَدًا قَلِيلًا مِنَ الْأَجْزَاءِ، وَاشْتَغَلَ بِالسَّمَاعِ بُرْهَةً يَسِيرَةً مِنَ الدَّهْرِ، أَنَّهُ صَاحِبُ حَدِيثٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَمَّا يُجْهِدْ نَفْسَهُ وَيُتْعِبْهَا فِي طِلَابِهِ، وَلَا لَحِقَتْهُ مَشَقَّةُ الْحِفْظِ لِصُنُوفِهِ وَأَبْوَابِهِ (4)
ثم ذكر بإسناده الحسن إلى مُحَمَّدِ بْنِ سَهْلِ بْنِ عَسْكَرٍ، قَالَ: " حَضَرْتُ الْمَأْمُونَ(5) بِالْمِصِّيصَةِ(6)، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ بِيَدِهِ مَحْبَرَةٌ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، صَاحِبُ حَدِيثٍ مُنْقَطِعٌ بِهِ. قَالَ: فَوَقَفَ الْمَأْمُونُ، فَقَالَ لَهُ: إِيشِ تَحْفَظُ فِي بَابِ كَذَا وَكَذَا؟ قَالَ: فَسَكَتَ الرَّجُلُ، فَقَالَ الْمَأْمُونُ: نا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ فُلَانٍ عَنْ فُلَانٍ، عَنْ فُلَانٍ، وَحَدَّثَنَا حَجَّاجٌ الْأَعْوَرُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ كَذَا حَتَّى عَدَّدَ لَهُ كَذَا حَدِيثًا، ثُمَّ قَالَ: إِيشِ تَحْفَظُ فِي بَابِ كَذَا؟ قَالَ: فَسَكَتَ، فَسَرَدَ فِيهِ كَذَا حَدِيثًا، ثُمَّ قَالَ: أَحَدُهُمْ يَطْلُبُ الْحَدِيثَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، يَقُولُ: أَنَا صَاحِبُ حَدِيثٍ، أَعْطُوهُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ "(7)
ثم ذكر بإسناده عن الإمامين أحمد بن حنبل وأبي بكر بن أبي شيبه رحمهما الله، بما يكشف به عوار المتشبعين بما ليس فيهم حتي اغتر بهم العوام الهوام فضربوا بهم الأئمة بحق وهم الأخيار،
فهذا أحمد بن حنبل رحمه الله يرتضي أن يكون الرجل صاحب حديث بثلاثمائة ألف حديث حفظا، وهذا أبو بكر بن أبي شيبه يرتضيه بعشرين ألف كذلك، نسأل الله الستر وأن يكفينا شر أنفسنا
قال الخطيب رحمه الله: وَهُمْ مَعَ قِلَّةِ كُتُبِهِمْ لَهُ، وَعَدَمِ مَعْرِفَتِهِمْ بِهِ أَعْظَمُ النَّاسِ كِبْرًا، وَأَشَدُّ الْخَلْقِ تِيهًا وَعُجْبًا، لَا يُرَاعُونَ لِشَيْخٍ حُرْمَةً، وَلَا يُوجِبُونَ لِطَالِبٍ ذِمَّةً، يَخْرِقُونَ بِالرَّاوِينَ، وَيُعَنِّفُونَ عَلَى الْمُتَعَلِّمِينَ، خِلَافَ مَا يَقْتَضِيهِ الْعِلْمُ الَّذِي سَمِعُوهُ، وَضِدَّ الْوَاجِبِ مِمَّا يَلْزَمُهُمْ أَنْ يَفْعَلُوهُ، وَقَدْ وَصَفَ أَمْثَالَهُمْ بَعْضُ السَّلَفِ
وذكر بإسناده عن عمر بن الحارث، وحماد بن سلمة، استنكارا لهذا الصنف(8)
ثم قال: وَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ طَلِبَةُ الْحَدِيثِ أَكْمَلَ النَّاسِ أَدَبًا، وَأَشَدَّ الْخَلْقِ تَوَاضُعًا، وَأَعْظَمَهُمْ نَزَاهَةً وَتَدَيُّنًا، وَأَقَلَّهُمْ طَيْشًا وَغَضَبًا، لِدَوَامِ قَرْعِ أَسْمَاعِهِمْ بِالْأَخْبَارِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى مَحَاسِنِ أَخْلَاقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآدَابِهِ، وَسِيرَةِ السَّلَفِ الْأَخْيَارِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَطَرَائِقِ الْمُحَدِّثِينَ، وَمَآثِرِ الْمَاضِينَ، فَيَأْخُذُوا بِأَجْمَلِهَا وَأَحْسَنِهَا، وَيَصْدِفُوا عَنْ أَرْذَلِهَا وَأَدْوَنِهَا
ثم ذكر بإسناده الحسن عن أبي عاصم النبيل قال: مَنْ طَلَبَ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَدْ طَلَبَ أَعْلَى أُمُورِ الدُّنْيَا، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ النَّاسِ.
وبإسناده الصحيح عن ابن شهاب الزهري قَالَ: «إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ أَدَبُ اللَّهِ الَّذِي أَدَّبَ بِهِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَدَبُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ، أَمَانَةُ اللَّهِ إِلَى رَسُولِهِ لِيُؤَدِّيَهُ عَلَى مَا أُدِّيَ إِلَيْهِ، فَمَنْ سَمِعَ عِلْمًا فَلْيَجْعَلْهُ أَمَامَهُ حُجَّةً فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»(9)
وساق بإسناده عن سفيان بن عيينة أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمِيزَانُ الْأَكْبَرُ، فَعَلَيْهِ تُعْرَضُ الْأَشْيَاءُ، عَلَى خُلُقِهِ وَسِيرَتِهِ وَهَدْيِهِ(10)، فَمَا وَافَقَهَا فَهُوَ الْحَقُّ، وَمَا خَالَفَهَا فَهُوَ الْبَاطِلُ»(11)
وساق بإسناده عن عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: «كَانُوا يَتَعَلَّمُونَ الْهَدْيَ كَمَا يَتَعَلَّمُونَ الْعِلْمَ» قَالَ: وَبَعَثَ ابْنُ سِيرِينَ رَجُلًا فَنَظَرَ كَيْفَ هَدْيُ الْقَاسِمِ وَحَالُهُ "(12)
وبإسناده الحسن عن إِبْرَاهِيمِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ، قَالَ: قَالَ لِي أَبِي: «يَا بُنَيَّ، إِيتِ الْفُقَهَاءَ وَالْعُلَمَاءَ، وَتَعَلَّمْ مِنْهُمْ، وَخُذْ مِنْ أَدَبِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ وَهَدْيِهِمْ، فَإِنَّ ذَاكَ أَحَبُّ إِلَيَّ لَكَ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْحَدِيثِ»
وبإسناده عن عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، قَالَ: قَالَ لِي مَخْلَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ: «نَحْنُ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الْأَدَبِ أَحْوَجُ مِنَّا إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الْحَدِيثِ»
و بإسناده عن مُحَمَّدِ بْنِ نُعَيْمٍ الضَّبِّيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا زَكَرِيَّا الْعَنْبَرِيَّ، يَقُولُ: " عِلْمٌ بِلَا أَدَبٍ كَنَارٍ بِلَا حَطَبٍ، وَأَدَبٌ بِلَا عِلْمٍ كَرُوحٍ بِلَا جِسْمٍ، وَإِنَّمَا شَبَّهْتُ الْعِلْمَ بِالنَّارِ لِمَا رُوِّينَا عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ قَالَ: مَا وَجَدْتُ لِلْعِلْمِ شَبَهًا إِلَّا النَّارَ، نَقْتَبِسُ مِنْهَا وَلَا نَنْتَقِصُ عَنْهَا "
وأخيرًا أقول :لا علم بلا أدب، كما لا نار بلا حطب، أو الأدب سبيل العلم، كما أن الحطب سبيل النار والمراد كما ذكر ابن عيينه نقتبس منها ولا ننتقص عنها، ومعناه أننا إذا لم يتحل الطالب والداعية بحلية العلم وخصال من الأدب ومحاسن الأخلاق، فمن ؟
نسأل الله أن ينفعنا بما علمنا وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل
كتبه
صبري عبد المجيد
---
(1) مطبوع، و تمت دراسته قديما .
(2) المقصود : أن لكل علم أصوله فلا يجيده إلا بجودة أصوله و هذا هو الفرق بين الأصلي و المزيف .
(3) اذا كان هذا في زمن الخطيب البغدادي رحمه الله وقد مات (463هـ )، فكيف بأهل زماننا ؟!نسأل الله الستر والعفو والعافية، ونعوذ بالله من شر المتكبرين المتعالين بغير أصل، وهو ما استطرد المصنف رحمه الله بنقده وكشف زيغه .
(4) والذي يجري عليه الحديث يجري علي غيره مع رفعة علم الحديث لأنه أصل باب من ـأبواب الشرع، وهو مما اختص الله به أمة محمد صلي الله عليه وسلم كما نص علي ذلك أبو حاتم الرازي وغيره .
في إشارة إلى التحذير من التساهل في إطلاق كلمة عالم وعلامه وغير ذلك مما يتلاعب به الشيطان علي صاحبه، فليحذر المتهورون من الشباب و المتشبعون بما ليس فيهم .
(5) الخليفة العباسي المشهور (ت :218 ).
(6) المصيصه : بكسر وفتح الميم، مدينة علي ساحل بحر الشام .
(7) فيه أن طريق العلم طويل وشاق، لا تحده نهايه، يكثر صاحبه بطلبه والصبر فيه. وفيه لزوم الشيخ والتلقي عنه
(8) فيه أن الطالب كلما ازداد علما، ازداد تواضعا ودراية وفهما والعكس حاصل
(9) رحم الله الإمام ابن دقيق العيد، قال : ما قلت قولا ولا فعلت فعلا إلا أعددت له جوابا بين يدي الله عز وجل.
(10) الهَدي : الطريق والسيرة والمراد مما يذكره المصنف عن السالفين الأخيار أنهم كانوا يتعلمون السلوك والتطبيق العملي من العلماء وسيرتهم، كما كانوا يتعلمون مسائل العلم .
(11) الرسول صلي الله عليه وسلم هو الميزان الذي توزن به الأقوال والأفعال لذا تقول دائما : اعرف الحق تعرف أهله، والحق في قول الله ورسوله صلي الله عليه وسلم بفهم السالفين الأخيار من الصحابة ومن ومن تبعهم بإحسان .
(12) القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، سلسلة بيضاء نقية، أحد فقهاء المدينة المشهورين وهو من التابعين كابن سيرين والمقصود التعلم من الشيخ العلم والهدي ولذا فالشيخ له أثره في تلميذه إيجابيا وسلبيا وقد صح عن ابن سيرين قوله إن هذا العلم بين فانظروا عمن تأخذون دينكم . |