الحمد لله والصلاة على رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- وبعد،
فإنَّ من النِّعم العظيمة التي يمتن الله بها على عبده المؤمن أن يرزقه العلم والفقه في الدين، ورأسه وذروة سنامه القرآن الكريم وسنة النبي المصطفى الأمين -صلى الله عليه وسلم-، فالقرآن كلام الله تعالى حقيقة من غير تشبيه ولا تأويل ولا تعطيل، يحفظه ويعلمه، وله بكل حرف حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، والله يضاعف لمن يشاء، وفي الصحيح عن ابْنِ مَسْعُودٍ -رضى الله عنه-، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: ((مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ))(1).
ومن تتمة النعم أن يرزقه الله تعليمه، فيكون بذلك قد جمع الخير كله لقوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث عُثْمَانَ-رضى الله عنه- ، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: ((خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ))(2).
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: فضل من تعلم القرآن. الثانية: فضل من تعلمه وعلمه.
الثالثة: فضل من أعان على تعليمه مادياً ومعنوياً.
وتكتمل النعم من الله تعالى على عبده الحافظ لكلام الله سبحانه وتعالى أن يرزق العمل بما حفظ لقوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح عن عمر بن الخطاب -رضى الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إِنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ)). (3)
يعني بالعمل به وعدم العمل به. { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر: 31]
وفي الصحيح عن النَّوَّاس بْن سَمْعَانَ -رضى الله عنه-، قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، يَقُولُ: ((يُؤْتَى بِالْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَهْلِهِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ تَقْدُمُهُ سُورَةُ الْبَقَرَةِ، وَآلُ عِمْرَانَ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أَوْ ظُلَّتَانِ سَوْدَاوَانِ بَيْنَهُمَا شَرْقٌ (أي ضياء ونور)، تُحَاجَّانِ عَنْ صَاحِبِهِمَا))(4).
والشاهد في قوله (( الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ في الدنيا ))
وقد حذَّر ربُّ العالمين، ورهَّب من عدم العمل بما يعلم الإنسان من قرآن وسنة وفقهٍ فقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2، 3]
وَصحّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رضى الله عنه-، أَنَّهُ قَالَ: إِنِّي لَا أَخَافُ أَنْ يُقَالَ لِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا عُوَيْمِرُ مَاذَا عَلِمْتَ؟ لَكِنِّي أَخَافُ أَنْ يُقَالَ لِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا عُوَيْمِرُ مَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عَلِمْتَ؟.(5)
وصح في حديث جُنْدُب بن عبد الله -رضى الله عنه- قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: ((مَثَلُ الْعَالِمِ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ ويَنْسَى نَفْسَهُ كَمَثَلِ السِّرَاجِ يُضِيءُ لِلنَّاسِ ويَحْرِقُ نَفْسَهُ))(6).
س: هل نحن نعمل بما نحفظ ونعلم، ونعلِّم؟ هل نحن قدوة في القول و العمل؟
ولنعلم جميعا أن الأصل في تحصيل العلم وتعليمه، الاحتساب على الله في ظل الصدق والإخلاص، وعدم المباهاة والرياء به، وإلا فسيكون حجة عليه، ويخفضه الله في الدنيا والآخرة، مالم يتب من ذلك، وهو المراد من قوله ((إِنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ))
ولما كان العلم الشرعي هو الغذاء و الوقاية والنجاة، وسبيل الفلاح في الدنيا و الآخرة. ولما كان الجهل فقر و عُري و عار و خراب وسبيل الخسارة في الدنيا والآخرة
رغَّب النبي -صلى الله عليه وسلم- ورهَّب، فقال -صلى الله عليه وسلم- (مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ ...، وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ)(7)
وقال -صلى الله عليه وسلم-: ( مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا، لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) يَعْنِي: رِيحَهَا. (8)
والمراد: من أخره عمله السيء، وتفريط في العمل الصالح، لم ينفعه في الآخرة شرف النسب.
ضرورة الإخلاص في العلم والرفعة فيه لله وحده، والحرص على الاتباع والامتثال لهدى المصطفى الأمين -صلى الله عليه وسلم-.
العمل بما علم و تعلّم و عَلَّم، والسنة في ذلك سواء، إذ القرآن والسنة متلازمان لا ينفكان، فهما من حيث المصدرية سواء، فهي مبيّنة لمجمله، و مخصصة لعمومه، ومقيدة لمطلقه، قال تعالى: ( وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) النساء(113)
وفي الصحيح عن أَبي هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ".
وفي حديث الْعِرْبَاضَ بْنَ سَارِيَةَ، عن رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: " عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ "(9).
وفيما سبق ذكره دلالة على المراد أيضا
ومن مقتضيات ذلك، الثبات عليه والدعوة إليه ولو كان صاحبه وحده، فلا يداهن به، ولا يتلون باسمه، وليحذر قول عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنِ الْتَمَسَ رِضَى اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ رَضِيَ الله تعالى عَنْهُ وَأَرْضَى النَّاسَ عَنْهُ وَمَنِ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ سَخَطَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَسْخَطَ عليه الناس"
وفي الأثر الصحيح: عن مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ يَقُولُ: قَالَ رَبِيعَةُ الرَّأْي: يَا مَالِكُ مَنِ السَّفَلَةُ؟ قَالَ: قُلْتُ: ((مَنْ أَكَلَ بِدِينِهِ)) قَالَ: فَمَنْ سَفَلَةُ السَّفَلَةِ؟ قَالَ: ((مَنْ أَصْلَحَ دُنْيَا غَيْرِهِ بِفَسَادِ دِينِهِ))
فالثبات على المبدأ في الحالة هذه من ثمرة العلم الصحيح.
نسأل الله الفقه في الدين، والعمل بما نعلم، إنه نعم المولى ونعم النصير
كتبه
صبري بن عبد المجيد
=====
(1) رواه الترمذي
(2) رواه البخاري (815)
(3) رواه مسلم (817)
(4) رواه مسلم (805)
(5) مصنف ابن أبي شيبة (35741)، جامع بيان العلم وفضله (1204)
(6) رواه الطبراني (1681) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1015)
(7) صحيح مسلم (2699).
(8) رواه أحمد (8457)، وأبو داود (3664)، وابن ماجه (252)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2049).
(9) رواه مسند أحمد (17144)، والترمذي (2676) وقال: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.