مسائل مهمة:
مسألة في المصلحة المرسلة والاحتكام إليها:
أولًا: لابد من الوقوف على حقيقة مهمة وهي: أن الشارع الحكيم قصد إلى جلب المصالح وتكثيرها، ودفع المفاسد وتقليلها، لكن ذلك ليس على نحو يُفضي إلى التنصل من الأحكام، وضرب الحلال بالحرام، كما دأب عليه كثير من الناس اليوم، إذ يحتجون بمقاصد الشارع لتبرير مآربهم، وتسويغ أهوائهم، هذا من حيث العموم، ومن حيث الخصوص ما يحتجون به لتسويغ الربا اليوم بدعوى الضرورة حينًا، والحاجة حينًا، والمصلحة حينًا.
وكثير ممن يحتج بذلك يحتج بمجرد اللفظ دون مراعاة صدق مدلوله على الواقعة من جهة أولى، ودون مراعاة إمكان إيصاله للمقصود شرعًا على فرض صدق مدلوله من جهة ثانية.
وقد شرعت في هذا المدخل لسببين:
الأول: لبيان ما عليه مفاهيم الناس اليوم – لاسيما من يزج بنفسه إلى العلم وأهله – من جهة دركهم الأمور، وتقديرهم الوقائع والحداث، وتنزيلها على تلك المقاصد والقواعد الفقهية.
الثاني: لبيان تحقيق تلك المقاصد، والقواعد التي هي أساس في الاجتهاد في كل زمان ومكان، وبقدر قصور الفهم في حقيقتها، وتحقيقها يحصل عوج في الاجتهاد.
إذا تقرر هذا؛ فإن من السهل جدًا كشف المتلاعب باسم المصالح العامة والخاصة، والضرورة والحاجة، والحكمة والعلة في مسألة الربا خاصة وغيرها عامة.
المصلحة المرسلة، والاحتكام إليها.
من الضروري جدًا معرفته والإقرار به، والتلازم بين المصلحة والشريعة، وذلك من وجوه:
الوجه الأول: أن هذه الشريعة مبنية على تحقيق مصالح العباد ودرء المفاسد عنهم في الدنيا والآخرة.
ولذا فالشارع الحكيم لا يأمر إلا بما فيه مصلحته خالصة أو راجحة غالبًا، ولا ينهى إلا عما مفسدته خالصة أو راجحة غالبًا.
الوجه الثاني: أن هذه الشريعة لم تهمل مصلحة قط، فما من خير إلا وقد حثنا عليه صلى الله عليه وسلم، وما من شر إلا وقد حذرنا منه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
الوجه الثالث: إذا عُلم ذلك فلا يمكن أن يقع تعارض بين الشرع والمصلحة المزعومة، إذ لا يتصور أن ينهى الشرع عما مصلحته راجحة غالبًا، ولا أن يأمر بما مفسدته خالصة أو راجحة غالبًا.
الوجه الرابع: إذا عُلم ذلك فمن ادعى مصلحة لم يرد بها الشرع، فهو بين أمرين لازمين:
الأول: إما أن الشرع دل على هذه المصلحة من حيث لا يعلم هذا المدعي.
الثاني: وإما أن ما اعتقده مصلحة ليس بمصلحة؟؛ فإن بعض ما يراه الناس من الأعمال مقربًا إلى الله، ولم يشرعه الله؛ فإنه لابد من أن يكون ضرره أعظم من نفعه، وإلا فلو كان نفعه أعظم لم يهمله الشرع.
((قُلْ صَدَقَ الله)) (( وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا))
وفي صحيح قوله :" ما أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عه فاجتنبوه (فدعوه) (فانتهوا) ".
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24].
والحياة الكريمة فيما أمر به الشرع وما نهى عنه وزجر.
المصلحة (لأنها تجلب نفعًا وتدفع ضرًا) المرسلة (لأنها مطلقة عن اعتبار الشارع أو إلغائه).
ولذا فهي تعرّف بتعريفات متقاربة منها:
1- هي جلب مصلحة أو دفع مضرة، والمراد بالمصلحة؛ المحافظة على مقصود الشرع، فمقصود الشرع من الخلق خمسة، وهو أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم، وذلك مرتبط بالنظر إلى ما اعتبره الشرع، وما ألغاه، جمعًا بين مصلحة خالصة غالبة، ومفسدة خالصة أو غالبة، وهذه دقيقة تدفع مبدأ التساهل والتسرع في الأحكام على خلاف الأصل المقصود.
2- ما لم يشهد الشرع لاعتباره ولا لإلغائه بدليل خاص، وتسمى بالاستصلاح، وبالمناسب المرسل، ومن هنا يبقى العام والخاص، والمجمل والمبين، والمطلق والمقيد، وهنا سعة العلم في النصوص الشرعية، ومخارج كلام الأئمة رحمهم الله.
تنقسم المصلحة إلى قسمين:
القسم الأول من جهة متعلقها، فتنقسم إلى ثلاثة أقسام:
1- قسم يتعلق بالضرورات (وهي ما كانت في محل الضرورة بحيث يترتب على تقويتها شيء من الضروريات أو كلِّها وتسمى بدرء المفاسد).
2- قسم يتعلق بالحاجات (وهي ما كانت في محل الحاجة لا الضرورة، فيحصل إلى التسهيل وتحصيل المنافع وتسمى بجلب المصالح ولا يترتب عليها شيء فوت من الضرورات).
3- قسم يتعلق بالتحسينات (هي ما ليس ضروريًا ولا حاجيًا).
والمقصود من هذا التقسيم بيان أهمية تفاوت المصالح تبعًا لتفاوت متعلقها، يعني الوصف المناسب الذي يناط به الحكم، ويخصص منه المناسب الضروري، وبالجملة، فالأوصاف إنما يلتفت إليها إذا ظن التفات الشرع إليها، وكل ما كان التفات الشرع إليه أكثر كان ظن كونه متصلًا أقوى.
ومن هنا يكون أثر الوصف المناسب في الحكم يقدم على غيره.
مثاله: إذا دار الأمر بين إحياء النفس وحفظها، وإتلاف الحال عليها، أو إتلافها، وإحياء المال. فأيهما نقدم؟
يقدم إحياء النفس لأنها أولى (هذا وصف مناسب ضروري ظهر أثره في الحكم)؛ ذلك لأن المال يذهب ويأتي، بخلاف النفس.
وكذا دار الأمر بين إحياء النفس وإماتة الدين، كان إحياء الدين أولى، وإن أدى إلى إماتتها، كما جاء في جهاد الكفار، وقتل المرتد .... إلخ.
ولا يكون النظر بسلامة إلا على ما سبق ذكره في مطلع المسألة.
وانظر إن شئت: المستصفى، وروضة الناظر، والمحصول، والموافقات، والإبهاج للإسنوي والبيضاوي، ومجموع الفتاوى (11/344- 345)، (13/96)، والإعلام (3/3)، ومفتاح دار السعادة لابن الملقن (2/14/22).
القسم الثاني: من جهة اعتبار الشرع، وتنقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: المصلحة المعتبرة: هي التي شهد الشرع باعتبارها بنص الكتاب أو السنة أو الإجماع. وذلك في وجود المناسبة بين الوصف المناسب الضروري والحكم.
مثال: الكليات الخمس:
1- حفظ الدين (شُرع الجهاد، وقتل المرتد...).
2- حفظ النفس (شُرعت عقوبة القصاص، والدية...).
3- حفظ العقل ( شُرع تحريم الخمر).
4- حفظ العرض (النسب/ النسل) (شُرع حد الزنا والقذف).
5- حفظ المال (شُرع حد السرقة).
ومثال: الصلاة: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «العَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ» أخرجه الترمذي (2621) والنسائي (1/231) وابن ماجه (1079) من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه.، وبقية النصوص الواردة في الباب.
فالوصف المناسب الضروري نراه في حفظ ما ذكره، والبقاء عليه وطلبه.
والحكم يكون في الوجوب والتحريم كما هو ظاهر.
ومثال توضيحي: اعتبار السُكر في تحريم الخمر الثابت بالنص:" كل مسكر خمر، وكل خمر حرام "، فالوصف المناسب هو الإسكار.
والحكم الذي هو التحريم، يحقق مصلحة مقصودة للشارع، وهي حفظ العقل، وعلى هذا؛ فإن كل ما شارك الخمر في وصف الإسكار أُلحق به في الحكم، لعدم الفرق بين الأصل والفرع. وفي هذا القياس مصلحة معتبرة لجلائه.
والمقصود: أن المصلحة المعتبرة شرعًا هي ما قام الدليل على اعتبارها.
والثاني: المصلحة الملغاة: هي التي شهد الشرع بإلغائها (ببطلانها) بنص الكتاب أو السنة أو الإجماع.
وبصورة أخرى: هي التي يراها العبد –بنظرة قاصرة– مصلحة؛ ولكن الشرع ألغاها وأهدرها.
مثاله قوله تعالى: { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11].
فهنا مساواة الأنثى للذكر في الميراث، مصلحة ألغاها الشارع الحكيم بالنص.
وقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: ٢٧٥)، مصلحة المرابي في زيادة ماله ونمائه عن طريق الربا، ألغاها الشارع الحكيم العليم بالنص.
وقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} (البقرة: ٢١٩).
المصلحة الموجودة في الخمر والميسر باعتبار الجانب المرجوح، أو باعتبار نظر العبد القاصر، هي ملغاة من جهة الشرع، فلا يُعَول عليها الحكم الاضطرادي.
وآخر ذكره الغزالي وغيره – أن الملك عبد الرحمن بن الحكم، قد جامع جارية له في نهار رمضان، وكرر ذلك في عدد من الأيام، وكان يكرر الإعتاق مطبقًا بذلك حديث الأعرابي المشهور، فأفتاه يحيى بن يحيى الليثي المالكي بضرورة صيام ستين يومًا (يعني عدَّاه من الإعتاق إلى الصيام) عدل ذلك بكثرة ماله وسهولة الإعتاق، فلابد من زجر أشد.
فهذه مصلحة رآها يحيى مناسبة لمقصود الشارع وهي الزجر، والزجر: قد يكون في الصوم في حق الملك أبلغ منه في العتق، وهي ملغاة بالنص، فهي باطلة لمخالفتها النص.
ومن هنا نعلم أن الوصف المناسب الذي عُلم من الشرع أنه ألغاه فهو غير معتبر أصلًا.
الثالث: المصلحة المسكوت عنها: هي التي لم يشهد لها الشرع بنص خاص ببطلان أو اعتبار؛ لكنها لم تخل عن دليل عام كلي يدل عليها.
فهي إذن لا تستند إلى دليل خاص معين، بل تستند إلى مقاصد الشريعة وعموماتها – وهذه تسمى المصلحة المرسلة.
وسميت بذلك لإرسالها، أي: إطلاقها عن دليل خاص يقيد ذلك الوصف {المناسب لتشريع حكم معين يحقق منفعة ويدفع مضرة} بالاعتبار أو بالإهدار.
وقد تُسمى بالمناسب المرسل؛ فإن عين المصلحة مرسلة عن دليل خاص باعتبارها أو إلغائها، بخلاف سابقيها.
مسألة: ضوابط الأخذ بالمصلحة المرسلة:
1- ألا تكون المصلحة مصادمة (معارضة) لنص أو إجماع.
وأعني بالنص؛ ما أفاد بنفسه من غير احتمال؛ فإن عارضته فهي باطلة باتفاق.
وأما النص العام، والظاهر من النص، فدلالته غالبة بما دل عليه وفيها احتمال؛ فإنه عند التعارض يُصار إلى الترجيح؛ لأن التعارض هنا هو بين الدليل، وما تستند إليه المصلحة المرسلة من دليل، إذن هو التعارض بين دليلين متقاربين في وجه الدلالة.
2- ألا تكون المصلحة في الأحكام التي تتغير، كوجوب الواجبات، وتحريم المحرمات، والحدود، والأحكام المنصوص عليها صراحة، والمجمع عليها، وما لا يجوز فيه الاجتهاد.
3- ألا تعارض مصلحة أرجح منها أو مساوية لها.
4- ألا يستلزم من العمل بها مفسدة أرجح منها أو مساوية لها في الحال والمآل.
أقصد بذلك التنبيه على أصلين مهمين وهما: سد الذرائع: وهو سد باب الحرام، وإبطال الحيل: وهو فتح باب الحرام.
ووجه العلاقة بينهما وبين المصلحة المرسلة:
1- المحرمات: مفاسد، وذرائع موصلة إليها، مطلوب إعدامه أو إغلاقها.
2- القربات: مصلحة العباد، وذرائع موصلة إليها، مطلوب فتحها.
فتح الباب في النوع الأول – كسده في الباب الثاني؛ وكلاهما مناقض لما جاءت به الشريعة لما في الجعل من المكر والتلاعب على إسقاط الواجبات، واستباحة المحرمات، وبهذا تؤدي إلى المفاسد التي قصدت الشريعة دفعها وسدها.
5- أن تعود على مقاصد الشريعة الخمسة بالحفظ والصيانة.
فهذه ضوابط مهمة جدًا يجب اعتبارها قبل التعجل بإصدار الأحكام وترويجها بين الملتقطين للشوارد والشذوذيات، فيروجونها أصولًا ومعتبرات، فينتشر الفساد ويعم في الأقوال والأفعال.
مسألة: ما الفرق بين المصلحة المرسلة والقياس؟
الجواب: القياس يرجع إلى أصل معين يُقاس عليه الفرع بجامع العلة الظاهرة، والمصلحة المرسلة لا ترجع إلى أصل معين، بل إلى أصل عام أو كلي.
فائدة: الاتفاق على أن تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها أو إعدامها، أصل شرعي، وذلك من حيث الاعتبار أو إلغائها كما سبق بيانه، ومالا اعتبار ولا إلغاء فيه، فهو مبنى المصلحة المرسلة – على اختلاف بينهم في التسمية، فمن قائل: تسمى قياسًا، ومن قائل: تسمى عمومًا، وآخر: تُسمى اجتهادًا، وآخر: عملًا بمقاصد الشريعة.
وإذا نظرنا بتأمل، وجدناه خلافًا لفظيًا. وفي ظل ما ذكرت تأتلف القوال والمسميات.
ومع ذلك أقول: يجب التحفظ وغاية الحذر في ذلك.
انظر: المستصفى، وروضة الناظر، والموافقات، ومختصر ابن اللحام، وشرح الكوكب المنير، ومجموع الفتاوى (11/343)، وإعلام الموقعين، وإغاثة اللهفان.
مسألة الاحتكام إلى المصلحة المرسلة:
أولًا: النظر في أحكام المستجدات يدخل في باب المصلحة، وهي منقسمة إلى أقسام ثلاثة:
1- مصلحة معتبرة: وهي التي جاء الشرع باعتبارها.
2- مصلحة ملغاة: وهي التي جاء الشرع بإلغائها.
3- مصلحة مرسلة: وهي التي لم يجئ الشرع بنص خاص في بيان حكم عينها، وإن كانت جاءت بعمومات تشهد لجنسها، أو جاءت بشبهها ونظرها.
ومن هنا نجزم بأن القول بتطور أحكام الربا وما شابهها من المنصوص عليه صراحة، تبعًا لتطور الحضارة دون مستند صحيح في محله يعتمد عليه، قول باطل مردود.
فإن اعتُرض على هذا بالقاعدة الفقهية لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان؟.
أجيب: بأن السياق الأمثل للقاعدة المذكورة، كما أتت به بعض المصادر لا ينكر تغير الأحكام المبنية على الأغراض والمصالح بتغير الأزمان.
وبهذا السياق نكون قد أجبنا عن الاعتراض.
وأزيد فأقول: لقد اتفقت كلمة الفقهاء والأصوليين على أن الأحكام التي تتبدل بتبدل الزمان والأعراف هي الأحكام الاجتهادية المبنية على العرف والمصلحة، وهذا بخلاف الأحكام الأساسية التي جاءت الشريعة بتأسيسها وتوطيدها بنصوصها الأصلية الآمرة الناهية، فهذه لا تتبدل بتبدل الأزمان بل جاءت لإصلاح الأزمان والأجيال.
ولابد أن تكون تلك الأحكام المسنونة بالمصلحة بحال تشهد لها قواعد الشرع بالاعتبار، وإن لم تشهد لها بالاعتبار لا تشهد عليها بالإبطال؛ كأن تكون من المصالح المرسلة بالضوابط السابق ذكرها.
أمثلة تطبيقية للقاعدة المذكورة:
1- الأصل في الشهادة قبول العدل وعدم قبول الفاسق، ولكن عند ندرة العدالة وعزتها ينزل الحكم على قبول شهادة الأمثل فالأمثل والأقل فجورًا فالأقل...
2- إذا لم يوجد غير العدول في القضاة وغيرهم... أقمنا أصلحهم فالأقل فالأقل... إلى أقلهم فجورًا لئلا تضيع المصالح، وتتعطل الحقوق والأحكام.
3- إحداث أحكام سياسية إدارية لقمع الدعارة وأرباب الجرائم عند كثرة فساد الزمان
وقد نقل عن عمر بن عبد العزيز قوله: تَحْدُثُ لِلنَّاسِ أَقْضِيَةٌ بِقَدْرِ مَا أَحْدَثُوا مِنَ الْفُجُورِ. الاعتصام للشاطبي ت الهلالي (1/ 232)
هذا – والركون إلى الأصل الشرعي واجب ابتداءً ولا يتعدى إلى غيره إلا بعد تعذر أو تعسر إقامته.
ومن هنا نفهم المراد من القاعدة التالية: ما حُرِّم سد للذريعة أُبيح للمصلحة الراجحة.
مثل: نظر الخاطب والشاهد والطبيب ... ونحو ذلك.
وبهذا يظهر لنا أن الأحكام قسمان:
1- قسم مستندُهُ يقبل التطور والتغيير، كالأحكام المستندة إلى العرف والاجتهادـ فتلك تتغير بتغير مستندها حسبما الزمان والمكان. 2- قسم مستندُهُ لا يقبل التغيير ولا التطوير أبدًا، فالنص الشرعي في محله، ولما كان أصل الحكم وهو النص لا تتغير أبدًا؛ فإن فرعه وهو الحكم لا يتغير تبعًا لأصله.
وانظر إن شئت الفروق للقرافي.
فإن اعترض على ذلك بأن الأحكام التي تستند إلى النص الشرعي المباشر في محله، قد تتغير بتغير الزمان والمكان، ومثاله: ما حُكيَ عن عمر رضي الله عنه في عدم قطع يد السارق في عام الرمادة، والسرقة حكمها القطع وهو ثابت بالنص.
أجيب: بأن هذا الذي اشتهرت حكايته عن عمر رضي الله عنه في كتب الأصوليين المتكلمين، وتداولتها ألسنة الشغب من الطوائف المرذولة المعاصرة.
هذا لم يثبت عن عمر رضي الله عنه عندي حتى الآن، ولعل مستند من نقل هذا وحكاه قد تصرف فيما هو منقول.
أخرج عبد الرزاق (18990) وابن أبي شيبة (28577) من طريق ابن جريج.
كلاهما (عبد الرزاق – وابن جريج) عَنْ مَعْمَرٍ , عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ , قَالَ: قَالَ عُمَرُ: «لَا يُقْطَعُ فِي عِذْقٍ وَلَا عَامِ السَّنَةِ».
وابن أبي شيبة (28582): حدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنِ حسان بْنِ زَاهِرٍ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ جَرِيرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ، يَقُولُ: «لَا قَطْعَ فِي عِذْقٍ، وَلَا فِي عَامِ سَنَةٍ».
وهذا ضعيف؛ فإن يحيى بن أبي كثير الطائي ثقة ثبت من الطبقة الخامسة (ت 132هـ)، وعمر (ت 23 هـ) فالإعضال بينهما واضح وتوضحه الرواية الثانية، وهذا يدل على تدليسه وإرساله، فقد أسقط حسان (شامي) وشيخه (بصري) وكلاهما مجهول.
العَذق: كل غصن له شُعَبٌ. والمراد به عذق النخل، وعام سنة: عام مجاعة.
نقل الحافظ ابن حجر في تلخيصه (4/70): عن إبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ الْجُوزَجَانِيُّ فِي "جَامِعِهِ"، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، عَنْ هَارُونَ بْنِ إسْمَاعِيلَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ حَسَّانَ بْنِ زاهر: أَنَّ ابْنَ حُدَيْرٍ حَدَّثَهُ عَنْ عُمَرَ قَالَ: " لَا تُقْطَعُ الْيَدُ فِي غَدَقٍ، وَلَا عَامِ سَنَة "، قَالَ: فَسَأَلْت أَحْمَدَ عَنْهُ، فَقَالَ: الْغَدَقُ: النَّخْلَةُ، وَعَامُ سَنَةٍ عَامُ الْمَجَاعَةِ، فَقُلْت لِأَحْمَدَ: تَقُولُ بِهِ؟ قَالَ: إِي لَعَمْرِي.
أثني فأقول: إن الوارد عن عمر رضي الله عنه كما في الأموال لابن زنجويه (1435، 2232)، وأبي عبيد (464)، وابن شبة في تاريخه (1254) من طريق مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزٍ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ذُبَابٍ الدَّوْسِيِّ، قَالَ: لَمَّا كَانَ عَامُ الرَّمَادَةِ، أَخَّرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الصَّدَقَةَ عَامَ الرَّمَادَةِ، حَتَّى إِذَا أَحْيَا النَّاسَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ وَأَسْمَنَ النَّاسُ، بَعَثَ إِلَيْهِمْ مُصَدِّقِينَ.... إلخ.
وفيه عنعنة ابن إسحاق.
وقد ذكر ابن شبة في تاريخ المدينة فصلًا في أمر الرمادة، وما فعل عمر رضي الله عنه في ذلك العام - من الإسناد (1233، 1255) ولم يرد فيه النقل المتداول عند الأصوليين والشاغبين اليوم في تعطيل النصوص بالعقل المنحوس.
بل نقل نحو ما سبق ذكره، وما فعل عمر رضي الله عنه حتى يمر بهذه الأزمة بسلام.
ومن خلال النظر كذلك في المصادر المذكورة وغيرها فما لم أذكره كسنن الدارقطني، والبيهقي وغيرها – أن رجلًا سرق من بيت المال؛ فكتب فيه سعد إلى عمر فقال: لا قطع عليه، ما من أحد إلا وله فيه حق ".
ونحو ذلك. ومنها ما هو مرفوع ولا يثبت، وموقوف عن عليّ وغيره ولا يثبت.
وقد أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه (28583) بإسناده عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ فِي الثَّمَرَةِ قَطْعٌ، وَلَا فِي الْمَاشِيَةِ الرَّاعِيَةِ، وَلَكِنْ فِيهَا نَكَالٌ وَتَضْعِيفُ الْغُرْمِ، فَإِذَا آوَاهُ الْمُرَاحُ أَوِ الْجَرِينُ يُقْطَعُ إِذَا سَرَقَ قَدْرَ رُبْعِ دِينَارٍ» . صحيح.
والسرقة: أخذ شيء في خفاء وحيلة.
واصطلاحًا: أخذ مال محترم لغيره من حرز لا شبهة له فيه. وفي الصحيحين من حديث:
1- عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إِلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا» البخاري (6789)، ومسلم (1684) والفظ له.
والدينار من الذهب = 4 جم من الذهب الصافي.
2- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «قَطَعَ فِي مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلاَثَةُ دَرَاهِمَ» البخاري (6795)، ومسلم (1686).
والدرهم من الفضة= 2,975 جم فضة.
شروط القطع:
1- أن يكون المسروق من حرز، ومرجعه إلى العرف [يعني خفية].
2- أن تنتفي الشبهة، فلا قطع من مال له فيه شركة، كالابن من أبيه، والعكس، والفقير من غلة للفقراء.
3- أن تثبت السرقة إما بإقرار من السارق معتبر، أو من شاهدين عدلين، وبلغ المسروق من النصاب.
فائدة: أجمع العلماء على أن الغاصب، والمختلس، والمنتهب، لا يُقطعون، وفيه حديث جابر مرفوعًا: «لَيْسَ عَلَى خَائِنٍ، وَلَا مُنْتَهِبٍ، وَلَا مُخْتَلِسٍ قَطْعٌ» الترمذي (1448)، والنسائي (8/88).
وإسناده مشكل، فيه ابن جريج قال: قال أبو الزبير قال جابر:...
وأعل بعدم سماع ابن جريج من أبي الزبير، بينهما ياسين بن معاذ الزيات وهو ضعيف.
وقد وردت روايات فيها التصريح بالسماع فيبحث في محله إن شاء الله.
قال الوزير بن هبيرة: أجمعوا على أنه يسقط القطع عن سارق التمر المطلق على رؤوس النخل إذا لم يكن محرزًا. وكذا الكثر [جُمّار (قلب) النخل].
وفيه حديث رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ». أبو داود (4388)، والترمذي(1449)، والنسائي (8/ 86)، وابن ماجه (4970)، وأحمد (3/463). وفيه كلام في الوصل والانقطاع، يحرر بعد في محله إن شاء الله.
والمراد التمر المعلق بالشجر قبل أن يُحدّ ويحرز، كما في حديث عبد الله بن عمرو – عند أحمد والأربعة وغيرهم – يحسن.
ومع ذلك أقول: إن المجاعة سبيل اضطرار إلى السرقة لحفظ النفس.
فالمضطر يُباح له أن يأكل من متاع غيره، ما يسد به رمقه، أو أكل من المال العام، وهنا الضرورة بقدرها. وهذه شبهة تدرأ عنه الحد. ثم إن السرقة لها نصاب كما سبق بيانه؛ فربما لم يبلغ السارق حد النصاب؛ فيكون المنع لعدم توفر شروط القطع. ثم لماذا لا يقال أنه نهبٌ أو اختلاسٌ أو غصبٌ؟ وفيه إجماع بالمنع، وعليه فيكون ترك القطع لعدم توافر شرطه، وليس تركًا للحكم كما يروِّج المتسولون.
مسألة في الفرق بين العلة والحكمة.
أولًا: لقد دأب الأصوليون على تعليل الحكم بالعلة، وهي أعم من التعليل بالحكمة.
ثانيًا: العلة هي الوصف الظاهر المنضبط من النص، المشتمل على الحكمة غالبًا، والحكمة هي الغاية والغرض من الحكم. وكلاهما ثمرة الاستقراء والتأمل من مقصود الشارع الحكيم.
وبهذا نجد بينهما تلازمًا من حيث العموم والخصوص.
والذي يجب معرفته لزامًا: أن الأصل في المعاملة مع النص الشرعي الدال على حكمٍ ما، الأصل فيه التسليم لهذا الحكم أولًا، ثم إن أدركنا الحكمة والغرض منه، أو العلة فيه فبها ونعمت، والحذر من تعليق الحكم الظاهر من النص على إدراك حكمته أو علته.
ثم إن إدراك العلة أو الحكمة، يكون في النص ذاته، أو في نص منفصل، ولهذا يجب سبر ما في الباب وثبوته، وكذا قد تكون العلة أو الحكمة مستنبطة من جهة الإيماء والتنبيه.
والمقصود: أن القول بالعلة أو الحكمة من النص الوارد في المسألة، يكون قويًا حسبما القرينة المحفوظة من حيث النص المرفوع أو الأثر الموقوف في حكمه، أو الموقوف، والمقطوع، وما جرى عليه العمل عند الأئمة الحفاظ الذين جمعوا بين الرواية والدراية.
واعلم أن جمهور الأصوليين على امتناع تعليل الحكم بالحكمة المجردة عن الضابط؛ فإذا كانت الحكمة ظاهرة منضبطة غير مضطربة يجوز التعليل بها.
وأما إذا كانت خفيّة مضطربة غير منضبطة؛ فيمتنع التعليل بها. [ مختلفة باختلاف الصور والأشخاص والأزمان والأحوال].
أمثلة توضيحية:
1- الرخصة في السفر: قلنا: إن الحكمة [دفع المشقة غالبًا] هي الغاية والفرق من الحكم [الرخصة في السفر].
وجائز أن نقول: إن العلة في السفر هي: دفع المشقة غالبًا – معلوم أن السفر يكون غير منضبط غالبًا – يعني قد يكون مفروضًا، ولماذا يسافر المسافر، ومات متطلبات السفر من حيث أداء المهمات والواجبات.
ولذا: أسأل سؤالًا وهو: هل الرخصة معلقة بتغير المشقة أم بمسمى السفر وملحقاته؟.
قلت: هذا لأن المشقة نفسها قد تضطرب، وتختلف باختلاف الصور والأشخاص، والأزمان والأحوال.
ولهذا: أسأل آخر، هل يُرخص للفرَّان والجمَّال المشقوق عليه في الحضر ترخيصًا اضطراديًا؟.
2- وجوب القصاص بالقتل العمد.
قلنا: إن الحكمة الغاية والغرض من الحكم.
الحكمة [الزجر عن مثله، وهو حكم متعد نفعه]
الحكم [وجوب القصاص بالقتل العمد].
وجائز أن نقول، إن العلة من وجوب القصاص بالقتل العمد هي الزجر لكل من تسوِّل له نفسه لذلك، أو جبران عاقلة المقتول، فيمتنع بعد من التعدي بمثل ما كان، فتعم الفوضى في البلاد والعباد، فهذا وصف ظاهر منضبط من النص غالبًا.
3- صحة البيع بتصرف الأهل فيه [يعني اشتراط الملكية والأهلية].
قلنا: إن الحكمة هي الغاية والغرض من الحكم.
الحكمة [الانتفاع بالبيع على وجه مقبول لا يقبل الطعن].
الحكم [صحة البيع].
ونقول كذلك: إن العلة طلب صحة البيع هي الانتفاع به على وجه مقبول مرضي لا يقبل الطعن، فهذا وصف ظاهر منضبط من النص غالبًا.
4- شرب الخمر حرام موجب للحد.
الحكمة هي الغاية والغرض من الحكم.
الحكمة [دفع المفسدة الناشئة منه غالبًا].
الحكم [تحريم شرب الخمر وأنه موجب للحد].
ونقول: إن العلة هي دفع المفسدة الخالصة أو الراجحة غالبًا من شرب الخمر؛ فهذا وصف ظاهر منضبط من النص غالبًا، وعلى ذلك فقس.
أما إذا كانت العلة خفية مضطربة غير منضبطة، فيمتنع التعليل بها، وهذا ما يسمى بالحكمة المجردة [ أي: عن الوصف المناسب المنضبط].
وعندئذ يبقى جريان الحكم على ظاهره، وعمومه بعيدًا عن التلاعب به، ومن هنا نرد على من احتكم من المعاصرين إلى التعليل بالحكمة في تحريم الربا.
والحكمة في نظرهم هي الظلم لقوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279].
ولذا قالوا بجواز القرض الإنتاجي بفائدة، وعدم جواز القرض الشخصي أو الاستهلاكي.
وهناك من سفه نفسه زيادة وتجاوز حدّه فأحل الكل!!!.
والمقصود أن هذه الحكمة المذكورة، خفية غير منضبطة، ومضطربة، غير مقبولة، لا سيما أما قوله تعالى: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279] واللعن فيه، كما في الحديث الصحيح:" لعن الله ..... لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم .... آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهده...هم سواء ". |